الاستشارة الأولى
ما هي في رأيكم أفضل طريقة لتدريس مادة العلوم في المرحلة الجامعية؟ وهل هناك طريقة بعينها؟
البروفسور كارل وايمن
الفائز بجائزة الملك فيصل العالمية في العلوم وجائزة نوبل في الفيزياء
الكثير من الطلاب، في المراحل الأولى من تعليمهم الجامعي، يواجهون صعوبات في تعلم العلوم. حيث يعتقد البعض أن السبب في هذه الصعوبة يعود في جزء منه إلى طول الفصول الدراسية الخاصة بمادة العلوم، بالإضافة إلى صعوبة المادة. ما هي في رأيكم أفضل طريقة لتدريس مادة العلوم في المرحلة الجامعية؟ وهل هناك طريقة واحدة محددة؟ وما هي أفضل نصيحة يمكن أن تقدموها إلى المعنيين بتعلم العلوم (سواء كانوا معلمين أو طلاب)؟
لا أعتقد أن الإلمام بمواضيع مادة العلوم أكثر صعوبة من الإلمام بمواضيع أي مادة أخرى ذات تحدٍ وتفكير عالٍ. ولكن في أغلب الأحيان، الطريقة التي يتم من خلالها تعلم هذه المادة، تجعل المادة تبدو صعبة وغير محببة، أكثر مما يجب أن تكون عليه. ومع أنه قد تكون هناك اختلافات في تفاصيل الكيفية التي تتم بها عملية تعلم وتعليم العلوم، إلاّ أن بعض البحوث التي أجريت حول تعلم العلوم، تشير إلى أن الطريقة المناسبة لتعلم العلوم، تتطلب مرور جميع الطلاب بنفس العملية العقلية. إذاً طريقة التدريس التي تشرح هذه العمليات العقلية، ومن ثم تشجع الطلاب وتكافؤهم على أن يمروا بهذه العمليات بأنفسهم، هي الطريقة الوحيدة التي تتسم بالفاعلية في تدريس هذه المادة. والعملية العقلية المطلوبة، تقوم على فكرة أن التعليم ليس مجرد نقل أو تحويل للمعلومات؛ بل هو تطوير للدماغ بحيث يكون قادراً على استيعاب طرق وأساليب جديدة للتفكير وحل المشكلات. ويتمحور تعليم العلوم في واقع الأمر حول تطوير قدرات التفكير الجديدة هذه.
والعمليات التالية ضرورية ومطلوبة لعملية تطوير الدماغ المتصلة بدراسة مادة العلوم. فالمادة التي يراد دراستها يجب أن تكون على صلة بالتفكير والفهم المسبق لدى الطالب، ويجب أن يتم بناؤها من هذا المنطلق. كما يجب أن تكون هناك ممارسة مستمرة ونشطة لمبدأ "التفكير في المادة كخبير". ويعني هذا القيام بالكثير من المهام الصعبة ولكن الممكنة في ذات الوقت (كالإجابة على الأسئلة، وحل المسائل، وتفسير الظواهر، وغيرها). وحل هذه المسائل يجب أن يتضمن دائماً التفكير حول المفاهيم الهامة، والتعرف على أي المعلومات لها صلة، وأيها لا صلة لها بحل المسألة، ومن ثم التأمل في الحل الذي تم التوصل إليه، لتحديد السبل الكفيلة بالتحقق من أن هذا هو حل مناسب، وكذلك الطريقة التي تم اتبعاها للوصول إليه. هذه هي طرق التفكير التي يستخدمها جميع العلماء في حل المسائل في مادتهم. كما أن تعلُّم كل التفاصيل الدقيقة من الحقائق والمعادلات ، وكل المفردات المتخصصة في المادة، ليس بالأمر المهم. فضلاً عن أنه لن يسهم في تطوير هذه الأساليب للتفكير.
إذاً، نعلم الآن أن بناء العقل يشبه بناء العضلات إلى حد كبير. فلابد من التمارين المستمرة والنشطة. وقد ثبت من خلال البحث أنه لابد من بذل الوقت والجهد لتحقيق أعلى مستوى من الخبرات، في جميع النشاطات البشرية تقريباً، سواء كان ذلك في عزف الموسيقى، أو في أن تصبح رياضياً مشهوراً، أو في تكون كاتباً أو عالماً عظيماً. وبالرغم من الاعتقاد السائد بأن النجاح في مواد بعينها كالعلوم، هو بسبب القدرات الفطرية، وهو أمر لم يشر إليه البحث. غير أنه أشار إلى أن كميات قابلة للمقارنة من الجهد المستمر، ضرورية ومطلوبة لكل شخص يريد أن يصبح عالماً ناجحاً، والاختلافات في درجات النجاح تعود بشكل أساسي إلى أيّ الأشخاص لديه الدافع والفرصة في أن ينجح في بذل الجهد في مكانه الصحيح. وهذا التناظر بين التطور العقلي والجسدي، يذهب إلى أبعد من ذلك. وتماماً كأهمية التمارين الرياضية والتدريب المكثف لتحقيق نجاح رياضي كبير، فإن الممارسة العقلية المستمرة للتفكير المشابه لتفكير الخبراء، مع قيام المعلم بدور المدرب في تقديم بعض المهام الصعبة وتقديم التوجيهات اللازمة لإنجازها، لهي أفضل طريقة لتعلم العلوم أو أي مادة أخرى.
ولبذل هذا الجهد المتواصل والضروري لعملية التعلم لفترة زمنية طويلة، يتطلب الكثير من الحوافز. ولكي تصبح معلماً جيداً لمادة العلوم، يجب أن تفكر في الطريقة التي تدفع بها الطلاب نحو الرغبة في بذل هذا الجهد. وعلى المدرس أن يبين للطلاب السبب الذي يجعل دراسة هذه المادة مفيدة وشيقة ومجزية. والناس عادة ما يرغبون في بذل الكثير من الجهد، بل يستمتعوا بالقيام بمهمة بعينها، إذا شعروا بأنها مجزية ويمكن إنجازها على المستوى الشخصي. وتعلم العلوم لا يختلف عن ذلك. ومن الطبيعي أن تختلف الأشياء المجزية باختلاف الأشخاص، كلٌ حسب رأيه. فقد يرى شخص ما أن تعلم العلوم له قيمة هامة، لأنها تساعده على فهم العالم من حوله بطريقة أفضل، ويذهب لاختيار هذا المجال ليقوم باستكشاف العلوم كباحث. بينما يجدها آخر مجزية لأنها تساعده في الحصول على وظيفة ومرتب أفضل. والمدرس الجيد سيساعد الطلاب في التعرف على أي الجوانب في دراسة العلوم يمكن أن تكون مجزية بالنسبة لهم، ومن ثم يقدم لهم المهام والتوجيه اللازم الذي يسمح لهم بتعلم العلوم.
وإذا كان الطالب يرى أن تعلم العلوم مهمة صعبة، دون أن يقدم أي مبرر لذلك، فقد تكون تلك بادرة غير سارة، غير أن الأمر هنا لا يختلف عن تعلم أي شيء آخر. ولعل الاختلاف الوحيد هو أنه في الكثير من المواد الأخرى، تبدو المكافآت التي تترتب على دراسة المادة أكثر وضوحاً قبل أن يصبح الشخص متمكناً في دراسة المادة. فباستطاعة المرء أن يميز الموسيقى، أو اللوحات الفنية الرائعة، قبل أن يتعلم عزف الموسيقى أو الرسم بشكل جيد. غير أنه من الصعب على المرء أن يتعرف على الجمال والفائدة الذين يكمنان في مادة العلوم، إذا لم يتعرف على مادة العلوم بشكل جيد. ولكن المعلم الجيد يمكنه أن يفعل الكثير لإماطة اللثام عن الجمال والمنفعة اللتين تنطوي عليهما هذه المادة.
أ.د. كارل وايمن
الحائز على جائزة الملك فيصل للعلوم
وجائزة نوبل في الفيزياء